كونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الذّي في السماوات هو كامل

(متّى 5، 48)

    مَن يسمع أمر الوحي هذا، ويكون عاقلاً ومستقيماً، ييأس، لأنّ ليس مِن إنسان كامل أو شبه كامل، لأنّنا كلّنا ناقصون في المحبة والصدق والطهارة. ولو أعطانا الربّ شهادة على سلوكنا، فكلّنا راسبون. وبما أنّنا لا نُكمّل أمر الربّ في حياتنا، ولا نُتمّم وصيته، فنحن معتدّون مذنبون أشرار وهالكون. ربّما أحد يعتبر نفسه إنساناً مهذّباً مُخلِصاً، إذ يقارن نفسه بزملائه البشر، ونشكر الربّ لأجل كلّ الأُدباء واللُطفاء، ولكن إذا قارن هذا الإنسان المهذّب نفسه بالله العظيم،لم تبق شرارة مِن الفخر، والثقة بالذات، لأنّ الله هو المقياس لحياتنا وسلوكنا وأدبنا. كان النبي أشعياء كاهناً في الهيكل، مختاراً من الله والناس، لهذه الوظيفة المقدّسة. هو قدوة لشعبه، فعندما رأى السَرافيم المنادين: "قدّوس قدّوس قدّوس، ربّ الجنود. مجده ملء كلّ الأرض". عندئذ اهتزّت أساسات العِتّبْ مِن صوت الصارخ، وامتلأ البيت الهيكل دخاناً. فأدرك الكاهن نفسه، في نور الله وصرخ: "ويلٌ لي، إنّي هلكتُ، لأنّي إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب، نجس الشفتين، لأنّ عينّي قد رأتا الملك، ربّ الجنود" (أشعيا 6، 3- 6). لا يعرف الإنسان نفسه، إلا بعد أن يعرف ربّه. كلّ مَن يُدرك لمحة عن القدّوس المحبّ، ينكسر انكساراً هائلاً، لأنّه يُدرك خطاياه بأوضح بيان في نور بهائه. إن كان يفكّر بأنّه إنسان صالح وجواد، مقبول عند الجميع، فيعرف حالاً أنّه مجرم هالك لا محالة له.

    أيها القارىء العزيز: نحترمك ونحبّك، ولكنّ لخير مستقبلك، نقترح عليك، أن تقارن نفسك بالله، وأن تطلب مِن القدّوس إيضاحاً إلهياً لحالتك، فيبيّن كلّ ذنب وكذب ونجاسة، حتّى لا يبقى فيك فخر، ولا أُبَّهة، إلا الإنكسار والإنسحاق. هذا الإدراك هو بداية الكمال، ولا كمال للإنسان، إلا بالإعتراف بكلّ خطاياه، كما تمتم أشعياء: "إنّي أنا نجس الشفتين، وساكن بين شعب نجس الشفتين، لأنّ عينيَّ قد رأتا الملك القدّوس".

 

هل يبدو أمر المسيح لنا تجربة شيطانية؟

    أتى إبليس إلى حوّاء في الفردوس، وبَلبل ثقتها بالله، وقال لها أخيراً:"الله عالم أنّه يوم تأكلان من هذه الشجرة، تنفتح أعينكما، وتكونان كالله، عارفَين الخير والشرّ (التكوين 3، 5) جرّب الشرّير حوّاء وزوجها بالفكرة أن يُصبحا حكيمين وعارفَين "مثل الله". هذه تجربة الشيطان الأصلية في كل حين. يريد الإنسان أنْ يرتفع، ويتكبّر، وينسى أنَّه مسكين. فبعض الزعماء يرتفعون أكثر، حتّى شعوبهم تؤلّههم، وتتبعهم كأنهم آلهة، ورأينا هذا التألّه للزعماء عند هيرودس ونابليون ولينين وهِتلر وماو تسي تونغ وعبد الناصر والخميني ... الذين وقعوا في تجربة الشيطان مع الصغار والكبار. وبما انّ المسيح أمرنا، أن نكون كاملين كالله، فليست هذه الوصيّة تجربة، بل تُرشدنا إلى إدراك نقصاننا. إن قِسنا أنفسنا بالأزلي، عندئذ ينكسر"الأنا"، ونصرخ "النجدة" "النجدة" مِن الرحمان الرحيم. ولكن مع الأسف، أكثريّة الناس لا يفهمون قصد المسيح، ولا يُدركون تجربة الشيطان! سُئلت فتاة صغيرة، عمرها أربع سنوات، ما هي المهنة التي تحبّينها في المستقبل؟ ففكّرت وقالت:"أنا أريد أن أكون تمثالاً". وعندما سألوها:"لماذا تريدين أن تكوني تمثالاً؟" فأجابت:"حتّى الكلّ ينظرون إليَّ". الإنسان يريد أن يكون محور الجميع، لينظر الكلّ إليه كإله صغير. يريد المسيح أن يكسّر هذه الأنانية، ليكون الربّ بالذات محور حياتنا. فلا نقيس أنفسنا بأنفسنا، بل نقيس أنفسنا بالآب السماوي، عندئذ تظهر الحقيقة.

ماذا يعني أمر المسيح؟

    ليس يسوع فيلسوفاً، بل مخلّصاً وربّاً. يعزم أن يحرّر البشر المتكبرين إلى تواضعه، ليتقدّم كلّ إنسان إلى هدف حياته، ويصبح صورة مصغّرة عن خالقه، الذي أعلن:"خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم"(التكوين 1، 27). يشاء الله والمسيح حقاً أنْ يصبح كلّ إنسان صورة مصغّرة عن الله، ومرآة عن محبّته وقداسته. هذا هو هدف الخلق، لا أكثر ولا أقلّ. يقصد يسوع بهذه الوصيّة، أنّ يرفعنا نحو هدف خالقنا، يرفعنا إلى مستواه الخاصّ. ونحن لا نزال خطأة، فما أعظم المحبة! نقرأ في العهد القديم أمراً إلهياً شبيهاً بوصيّة المسيح، وبالمعنى نفسه: إنّي أنا الربّ إلهكم، فتُقدّسون وتكونون قدّيسين، لأنّي أنا قدُّوس (اللاويين 11،44). فمَن يتجرأ أنْ يقول "أنّي أنا قدّيس" ليس أحد صالحاً ولا واحد. أمّا الله فقرّر أنْ يرفعنا إلى مستواه الخاصّ به. فما أعظم المحبة! وإنْ نظرنا إلى تربية الإنسان، والمدارس العليا، والشهادات البارزة، فنرى أنّه لا يصدر منها، إلا خطاة أذكياء، لأنّ قلب الإنسان يبقى رغم كل التعليم نجساً وشريراً. أمّا الله فَيُريد أنْ يعطينا قلباً نقياً، وروحاً مستقيماً، فتربيته أسمى مِن كل تربية بشرية وأقدس مِن كل شهادات ورتب ورواتب ضخمة.

كيف يمنح الله لنا كماله؟

    إنْ دقّقت في قراءة وصيّة المسيح بخصوص كمالنا، فتجد أنّه لم يقل: كونوا كاملين كما أنّ الله هو كامل، وإلا نيآس، ونفشل ونحبط، إنما قال:"كونوا كاملين كما أنّ أباكم في السماء هو كامل". كلمة "الآب" تُغيّر كلّ القصّة، وصار لنا رجاء، لكي لا نفشل، بل نتقدّم مِن أجل بُنوّتنا لله. عندئذ يظهر الله لنا، ليس كدّيان وجبّار، بل كمحبّ كآب، كَمَن يملك قلباً رؤوفاً وعطفاً وحناناً. فإسم الآب رجاؤنا، وضمان مستقبلنا. فلنتعمّق في هذا الإسم الفريد، لنُدرك كيف يَهب لنا الله كماله. يوّرث الآب الدنيوي لأولاده خلايا نوعه، وصنفه، وطاقة مواهبه، وسرّ مزاجه. فكما الآب هكذا الإبن! أمّا الآب السماوي فيورّثنا مواهبه، ولاهوته، وقدرته، لكي لا نبقى فاشلين، غير مقتدرين، بل رافعين رؤوسنا نحوه، شاكرين مِن صميم قلوبنا، مصلّين كما علّمنا المسيح: "أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك الأبوي" (متّى 6،9). يهتم الآب الدنيوي بأولاده، ويريد أن يُصبحوا مثله، وأفضل، فيربيهم، ويدفعهم، ويراقبهم، ويستخدم المعارف لتقدّمهم، ويشجعهم نحو الأفضل، ويضحّي بكلّ ما عنده لأجل منفعتهم ومستقبلهم. إنْ كان الآب الدنيوي يهتمّ بأولاده فكم بالحري الآب السماوي يحبّك، ويشجّعك، ويقوّيك ويقدّسك، ويضحّي بكل ما عنده حتّى تنجح في الحياة والأخرة. الله يَهبك نفسه، لكي تصبح كاملاً، كما هو كامل. فما أعظم المحبّة!

الآب يرسل إبنه لنا ليضع كماله فينا

    هل عرفت لبّ الإنجيل؟ فاقرأ الوحي المثير والمعلن: لأنّه هكذا أحبّ الله العالم، حتى بذل إبنه الوحيد، حتى لا يهلك كلّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3،16). وفسّر بولس الرسول هذا الكنز وكتب:"إنْ كان الله معنا فَمَن علينا! الذي لم يُشفق على إبنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يَهبنا معه كل شيء؟" (رومية 8، 31- 32). منح الله لنا بمجيء المسيح كماله الخاص، إنْ ثبتنا فينا، وتبعناه. نقرأ أيضاً في رسائل رسول الأمم الآية المثيرة عن المسيح: فإنّ فيه يحلّ كلّ ملء اللاهوت جسدياً، وأنتم مملوؤون فيه! (كولوسي2،9-10). فهل أدركت هدف الله الآب؟ لا يتركك كما تكون ناقصاً وفاشلاً ونجساً، بل يملأك بملء لطفه، وكماله، بواسطة إتيان يسوع المسيح. فافتح قلبك لهذه البشارة، لأنّها هبة سماويّة لا دنيوّية. أتى المسيح، ليكون جسراً بيننا وبين الله، ويرفع الهوّة والهول والخطيئة. فنقرأ أنّ يوحنّا المعمدان صرخ:"هوذا حمل الله، الّذي يرفع خطيئة العالم!" (يوحنا 1، 29).

    شاء المسيح أنْ يبرّرنا مِن كلّ عِلّة، وإثم وذنب وفجور، لكي لا يبقى فينا شكوى، كما نقرأ مِن بولس الحبيب:"الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبرّرين مجاناً، بنعمته، بالفداء الّذي بيسوع المسيح"(رومية 3، 23- 24). منح المسيح لنا حقّاً جديداً، أنّ نُحسب أبراراً، رغم حالتنا التعيسة. فلأجل كفّارته، يعتبرنا الله متبررّين أبرياء قدّيسين إلى الأبد، إن آمنّا بحمل الله الوديع. ويُطهّر دم يسوع المسيح قلوبنا، مِن كلّ إثم، تطهيراً كاملاً شاملاً أبدياً، كما هو مكتوب:"فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزليّ، قدّم نفسه لله بلا عيب، يطهّر ضمائرهم مِن أعمال ميّتة، لتخدموا الله الحي"    (عبرانيين 9، 14). أثبت الرسول يوحنا نفس الحقيقة السماوية:"دم يسوع المسيح، إبنه، يطهّرنا مِن كلّ خطيئّة"(يوحنا الأولى 1،7). الله يمنحنا بواسطة المسيح تطهيراً كاملاً،وضميراً مرتاحاً. فهل شكرته لهذا الإمتياز ولهذه الهبة التي لا توصف؟ وبولس أكمل البحث عن الكمال الموهوب لنا وكتب:"إنّ الله كان في المسيح مصالحاً العام بنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعاً فينا كلمة المصالحة. إذاً نسعى كسفراء عن المسيح، كأنّ الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله"(كورنثوس الثانية 5، 19-20). أتمّ الله الصُلح بينه وبين البشر المجرمين المعتدين. فهذا الصُلح يكون كاملاً غير منقوص أو ضعيف. تهلّل بولس الرسول على أساس هذا الصلح، والتبرير المجّاني، وكتب:"إذ قد تبرّرنا بالإيمان، لنا سلام مع الله، بربّنا يسوع المسيح"(رومية 5، 1). فالمسيح هو سلامنا، لأنّ فينا عصياناً وتكبّراً، ولكنّ كفّارة المسيح أدخلتنا إلى سلام مع الله:"لأنّكم بالنعمة مخلّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطّية الله"، "لأنّ المسيح هو سلامنا"(أفسس 2،14 و2، 8). طوبى لِمَن يدرك، أنَّ هذا السلام يكون أزلي أبدي، لا يتزعزع، لأنّه مبني على ذبيحة حمل الله.

    وهكذا يخبرنا يسوع، أنّه قطع معنا عهداً جديداً، مبنيَّاً على دمه الثمين، كما نقرأ حسب البشير متّى:"وفيما هُم يأكلون، أخذ يسوع الخبز، وبارك وكسّر، وأعطى التلاميذ وقال: "خُذوا كُلوا هذا هو جسدي". وأخذ الكأس، وشكر وأعطاهم قائلاً:"إِشربوا منها كلكم لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين، لمغفرة الخطايا" (متّى 26، 26- 28). هل أدركت في كلمات يسوع الشهيرة، أنّه منح لك بعهده الكمال الإلهي ثلاث مرات؟

1-           العهد الجديد، الذي قطعه المسيح معنا، هو عهد أبدي كامل غير ناقص ممتلىء القوّة الإلهية، والفاعلية منذ يوم تأسيسه.

2-           جسد المسيح، الذي يحلّ فينا بالنعمة، بالرمز الخبز، هو كامل، وغير ناقص، قدّوس إلهي. يُريد الأبن أنْ يَثبت فيك، ويسكن في فؤادك، ولن يتركك أبداً. فالعشاء الربّاني يشركك في كمال الله.

3-           وأمّا دم يسوع المسيح، الذي تشربه برمز الخمر، هو طاهر وقدّوس، وثمين فوق أي ثمن دنيوي، وتتسربل في عروق الذين يشربونه إلى أطراف أصابعهم، لكي يتطهّروا كلياً مِن خطاياهم. فهل لاحظت كمال الله الموهوب لكل الذين ينفتحون للمسيح، ويأكلونه ويشربونه لأنّه يريد أنْ يسكن فينا إلى الأبد. وأثبت كاتب الرسالة إلى العبرانيين توضيحاً لذلك الإمتياز، ولخّص كل معاني الكلمات بشهادته: لأنّه بقربان واحد، قد أكمل إلى الأبد، المقدّسين (عبرانيين 10، 14).

الآب السماوي يمنح لنا كماله بحلول الروح القدس فينا

    الله روح، والذين يسجدون له، فبالرّوح والحق ينبغي أن يسجدوا (يوحنا 4، 24). روح الله هو في ذاته كامل، وقدّوس، وطاهر، كما الله هو قدّوس، وفوق كلّ شكاوي الشيطان. وهذا الرّوح الإلهي يحلّ في أتباع يسوع، لأنّهم غير قادرين أن يسلكوا كما يحقّ بالإنجيل، فيعين هذا الروح ضعفاتنا، ويَدفعنا نحو سلوك لائق لإسم أبينا السماوي. وهو بنفس الوقت قوّة الله للخلاص، لكلّ مَن يؤمن، فالآب السماوي يحرّرنا حسب الحقّ، ويقوّينا بواسطة الرّوح، فيشركنا بالكمال شرعياً وروحيّاً.

    كان الله في العهد القديم يَعِد بحلول الروح القدس، في أتباع المسيح، بوعده العظيم: "أعطيكم قلباً جديداً، وأجعل روحاً جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم، وأجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي، وتحفظون أحكامي، وتعملون بها" (حزقيال 26، 26- 27 ).

    وتمّت هذه الوعود في عيد العنصرة، وتمركز روح الله في قلوب المصلّين:"لَمّا حضر يوم الخمسين، كان الجميع معاً بنفسٍ واحدة. وصار بَغتةً مِن السماء صوت، كما مِن هبوب ريح عاصفة، وملأ كلّ البيت، حيث كانوا جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها مِن نار واستقرّت على كلّ واحد منهم. وامتلأ الجميع مِن الرّوح القدس" (أعمال الرسل 2، 1- 4).

    هذا الحلول الإلهي، إلى الذين برّرهم المسيح بدمه الثمين، يأتي بمواهب وصفات، ودوافع وامتيازات بدون حصر، ويَمنح لنا أولاً معرفة الآب والإبن. وليس مِن أحد يعرف الآب ولا الإبن إلا بهبة الرّوح القدس. "لأنّ كلّ الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله، إذ لم تَأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتُم روح التبنّي، الذي به نصرخ: "يا أبا الآب!". الرّوح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أنّنا أولاد الله" (رومية 8، 14- 16). فهل أدركت مِن هذه الآيات كمال الله الموهوب لك، لأنّه يُعلن لك هذا الروح اسمه الآب، وبنفس الوقت يمنحك التبنّي، حتّى تكون مِن أولاد الله حسب الحقّ. ولا يتراجع الله عن هذا الحق، بل منحه لك إلى الأبد. فهو الآب، وأنت مِن أولاده في الرّوح والحق. ويحقّق الرّوح فينا محبّة الله، ويملأ الفراغ فينا، ويدفعنا على تطبيق هذه الموهبة، كما نقرأ :"محبة الله، قد انسكبت في قلوبنا، بالرّوح القدس المُعطى لنا" (رومية 5، 5).

    إن محبّة الله كاملة وغير ناقصة، وهي بذاتها موهوبة لك، لأنّ محبّتك الخاصّة ضئيلة ووقتّية، أمّا محبّة الله، فهي قوّية، أزليّة أبديّة، لا تتغيّر ولا تنتهي. وقال المسيح أنّه: يُريد أن يُكمل فينا فرحه:كلمتكم بهذا، لكي يَثبت فرحي فيكم، ويكمل فرحكم (يوحنا 15، 11). وحقّق يسوع بهذا الوعد في صلاته الشفاعية عندما طلب مِن أبيه لأجلنا: "أمّا الآن فإنّي آتي إليك، وأتكلّم بهذا في العالم، ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم" (يوحنا 17- 13). يتّضح مِن كلمات يسوع هذه أنّ مسّرة الله ساكنة فيه، وأنّه يشركنا بسروره حسب القول:"لا تحزنوا، لأنّ فرح الرب، هو قوّتكم" (نحميا 8، 10). يجري العالم بسرعة نحو الفرح المشتاق إليه ولا يجدونه. الفرح الدنيوي ينتهي بدموع، أمّا فرح المسيح فهو كامل، وموهوب لك، إن فتحت نفسك لروح المسيح، المنبعثة مِن قلب الآب. وفوق هذا نقرأ من بولس الرسول:"وسلام الله، الذي يفوق كلّ عقل، يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع" (فيليبي 4، 7).

    هل عرفت أنّ في الله سلاماً؟ وأنّه لا يوجد في الدنيا سلام حقيقي، إلا بحلول سلام الله بالقلوب والأذهان، والعائلات والجماعات والكنائس؟ سلام الله كامل موهوب لِمَن يثبت في المسيح، وهو فيهم. فتّش الكُتُب، فتجد أنّ تواضع المسيح ووداعته، وعفّته وروحه للخدمة، وحمده وعطفه، وكلّ صفاته، الموهوبة لك في الروح القدس، كاملة بذاتها، موهوبة لك! وأمّا روح المسيح فلا ينام، ولا ييأس، بل يعمل، ويدفعك إلى عمل صالح، ويعزّيك، ويُنشيء فيك اليقين، ويساعدك للشهادة الواضحة، أمام السلطات حسب قول يسوع:"فمتى أسلموكم، فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون، لأنّكم تُعطون في تلك الساعة ما تتكلّمون به، لأن لَسْتُم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم، الذي يتكلم فيكم" (متّى 10، 19). يمنح الآب السماوي لأولاده وحياً كاملاً حتّى يستطيعوا أن يشهدوا بحقيقته، وبخلاص المسيح الكامل. الروح القدس هو عربون فدائنا  (أفسس 1، 14) والمسيح فيكم رجاء المجد (كولوسي 1، 27).

    إن تَعمّقت في هذه الآيات، أدركتَ سِرّ الكمال، الموهوب لأتباع المسيح، بأنّ الله الآب والإبن والروح القدس يهب ذاته لأتباع المسيح، ليشتركوا في كماله، وهكذا يصبحون أعضاء في أسرة الله ورعيته:"فلستم إذاً بعد غرباء ونُزلاً، بل رعيّة مع القدّيسين وأهل بيت الله مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر نفسه الذي فيه كلّ البناء مركّباً معاً ينمو هيكلاً مقدّساً في الرب الذي فيه أنتم أيضاً مبنّيون معاً مسكناً لله في الروح" (أفسس 2، 19- 22). ردّد بولس هذا السِرّ العظيم مراراً. أنّ جماعة المسيح هم هيكل الروح القدس (كورنثوس الأولى 3، 16- 17؛ 6، 17و 19). وطلب المسيح لأجلنا نحن البطّالين أنْ نقترب مِن وحدة الثالوث الأقدس ونُجذب إليها، ونثبت فيها، لنشترك في كمالها:"وأنا قد أعطيتهم المجد، الذي اعطيتني، ليكونوا واحداً، كما أنّنا نحن واحد. أنا فيهم، وأنت فيَّ، ليكونوا مكمّلين إلى واحد، وليعلم العالم أنّك أرسلتني، وأحببتهم كما أحببتني" (يوحنا 17، 22- 23). 

من يدرك هذه الوعود والحقائق في صلوات يسوع، يسجد للآب والإبن بقوّة الروح القدس، لأنّه أكمل الوصية العظمى، أن نكون كاملين كما أنَّ أبانا في السماء هو كامل. نحن في ذواتنا لا شيء، بل مذنبون مدانون، فالله في رحمته يرفعنا نحو مستواه، ويَهب لنا ذاته، حتّى نشترك في كماله. فلا يعطينا مالاً أو قوّة أو شرفاً دنيوياً، بل كمالاً روحياً، لأنّ كلّ الطاقة البشرية تزول، أمّا كماله فيستمّر ويدوم إلى الأبد.

كيف يحقّق المسيح ويمتحن كماله فينا عملياً؟

    بعد هذا التفسير عن عجزنا، وهبة الله المجّانية، يَدلُّنا المسيح على التطبيق العملي، لكمال الله فينا:أحبّوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات فإنّه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين لأنّه إنْ أحببتم الذين يحبّونكم فأيّ أجر لكم؟ أليس العشّارون أيضاً يفعلون ذلك؟ وإنْ سلّمتم على إخوتكم فقط فأي فضلٍ تصنعون؟ أليس العشّارون أيضاً يفعلون ذلك؟ فكونوا أنتم كاملين كما أنّ أباكم الذي في السماوات هو كامل (متّى 5، 44- 48). المسيح لا يتكلم عن كلام نظري فحسب، بل عن التطبيق العملي، كإمتحان لكمالنا! فيطلب تحقيق محبّة الله فينا عملياً وحقّاً، كما أنّه أحبّ أعداءه، وبارك لاعنيه، وأحسن إلى مبغضيه، وصلّى لأجل المسيئين إليه، وخلّصهم، إن كانوا يعرفون حقّهم، أو لا يعرفون، إذا كانوا يقبلونه، أو يرفضونه. محبّة الله ليست لها حدود. وهذا ما يريده بالتمّام منّا نحن. وهنا تنتهي التوهمات والأحلام، والأوهام حول الكمال، ونتعلّم عملياً ماذا قصد يسوع بهذه الوصيّة!

    فمَن يحبّ أعداءه، لا بُدّ أن يغفر لهم ذنوبهم، وخُبثهم وشرّهم، كما الله يغفر لنا، ويحبّنا، ولا يميل عنّا. الآب السماوي يغفر لنا زلاتنا يومياً، كاملاً، شاملاً مِن كلّ القلب. هكذا ينبغي أن نُسامح المذنبين إلينا، يومياً كاملاً، شاملاً بكل محبّة. مَن لا يَغفر، لن يُغفر له. ومَن يتقسّى تُجاه محبّة الله، ولا يُسامح، يَفقد غفرانه المعطى له، كما نقرأ في الإنجيل:"فإنّه إنْ غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي. وإنْ لم تغفروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم" (متّى 6، 14- 15).

    لذلك علّمنا المسيح، أن نصلّي:"واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا" (متّى 6، 12). وهذه الكلمة الصغيرة "كما" تكسّر عنادنا وحقدنا، لأنّنا نطلب بِنطق هذه الكلمة مِن الله، أن لا يغفر لنا أكثر مِن غفراننا نحن. فإنْ سامحنا ولكن لا نريد أنْ ننسى ما فعله، فكأننا نقول:"سامحني يا الله، ولكن لا تنسَ ما فعلته نحوك ونحو الآخرين، فغفران الله الكامل الشامل يربّينا، ويرشدنا إلى غفران كامل شامل، بلا قيد ولا شرط. وأوضح يسوع لبطرس، الذي فكّر أنه يكفي الغفران لزميله سبع مرات في يوم واحد، فابتسم يسوع عندها قائلاً:"سبعين مرّة سبع مرّات أي 490 مرّة يومياً!" ترى في هذه الكلمات مِن يسوع ما يقصده مِن كمال الله في حياتنا:محبّة العدوّ بدون حدود، وتسامحه بدون حدود، كما سامحنا الله يومياً. شرّع يسوع هذا المبدأ بمناسبة، وقال لأتباعه:"كونوا رحماء كما أنّ أباكم أيضاً رحيم. ولا تَدِينوا فلا تُدانوا. لا تَقضوا على أحد فلا يُقضى عليكم. اغفروا يُغفر لكم" (لوقا 6، 36- 37).

    إنْ أردت أنْ تتعلّم الرحمة المسيحية فمارس كلمات يسوع عملياً، وتصبح حكيماً، وينشىء الروح القدس فيك الرحمة والرأفة. نتعجب أن نقرأ في القرآن شهادة محمد، على أنّ المسيحيين حقّقوا هذه المبادىء، في زمنه تُجاه المسلمين:"وقفّينا بعيسى ابن مريم، وأتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه رأفة ورحمة ( سورة الحديد 57، 27). هذه الشهادة الغير المسيحية تُثبت، أنّ المسيحيين في زمن محمد أحبوا أعداءهم، وباركوا لاعنيهم، وأحسنوا إلى مبغضيهم، وبرهنوا بسلوكهم، أنّهم أولاد الله في وسط ضيّقاتِهم.

    يَدفعنا يسوع، بأن نَهبّ لزيارة المرضى، ومحبة المساكين، ونخدم المعوّزين ونساعد المطرودين، ونحرر الملبوسين، ونخدم الجميع، كما كان خادماً بيننا، وجلس مع الخطاة التائبين، وأحبّ الصغار. فمن نزور بعد ظهر يوم الأحد؟ هل هم أعضاء عائلاتك وأصدقائك أم المرفوضون والمقهورون في المجتمع، والمعتّرون حيث تلتقي بيسوع عندهم، لأنّه قال:"بِما أنّكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم" (متّى 25، 40). تجد سِرّ محبّة الله في العهد الجديد معلناً مِن الصفحة الأولى حتى الأخيرة، لأنّ "الله محبّة. ومَن يثبت في المحبة، يثبت في الله، والله فيه" (يوحنا 4، 16). وفَسّر يسوع هذه الآية الذهبية بقوله:"وصية جديدة أنا أعطيكم، أنْ تُحبوا بعضكم بعضاً، كما أحببتكم أنا تحبّون أيضاً بعضكم بعضاً. وبهذا يعرف الجميع، أنكم تلاميذي، إن كان لكم حبّ بعضاً لبعضٍ" (يوحنا 13 ، 34- 35). حقّق يسوع وصيّته الجوهريّة، وعاش مع تلاميذه، وصلّى لأجلهم، ووبّخهم إذ أخطأوا، ومشى معهم في البلاد، ولم يفقد أحداً منهم، إلا خائنه. فيسوع مثّل محبّة الله وكمالها أمامنا، ولخّص كل الكلام بوصيّة واحدة، أن نحبّ كما أحبّنا. وبما أنّنا غير قادرين على فعل ذلك مِن تلقاء أنفسنا، فيساعدنا على ذلك لتميم وصيّته، بغفرانه المستمّر، وقوّة روحه وشفاعته لنا عند الله، واشتياقه لنا، حتّى يأتي ثانية، ويأخذنا إليه، لنكون معه في كل حين، بحضور الآب، لنرى فيه سِرّ الكلام ألا وهو المحبّة الإلهية. آمين.