ماذا حدث على جبل حرمون؟

 

توجّه ثلاثة صيّادي سمك مع معلَّمهم، قبل شروق الشمس،نحو قمّة جبل حرمون. وكان بطرس أكثرهم كلاماً، أمّا يعقوب فكان هادئاً وأخوه يوحنا الفتى كان يصغي إليهما بانتباه.

 

عندما ترك الرجال قيصريّة فيلِبُّس (متى 16 :3) عند ينابيع نهر الأردن، وتسلقوا الجبل برويّة، ذكّرهم معلَّمهم بشعاره:"قد اقترب ملكوت السماوات فتوبوا وآمنوا بالإنجيل (متى 3: 2، مرقس 1 : 15 ).

 

"سأل بطرس : ما هو النظام في هذا الملكوت الآتي؟ هل يحتاج إلى ضبّاط شجعان وجباة ضرائب ماهرين ووزراء أذكياء؟

 

كلا، أجابه المعلَّم،إن ملكوت السماوات لا يعتمد على أسلحة ولا على ضرائب أو إدارات، بل يتألف من رجال ونساء تجددت قلوبهم وأذهانهم فأحبّوا بعضهم بعضاً واحترم أحدهم الآخر.

 

سأل يعقوب :هل ينبغي أن يقوم أهل هذا الملكوت بعمليّة قلب مفتوح،أو يحصلون على قلب اصطناعي؟

 

كان تسلّق الجبل متعِباً لصيّادي السمك من منخفض بحيرة طبريّا، فخفقت قلوبهم بضربات قويّة عندما تبعوا طرق الماعز في صعودهم نحو القمة.

أجاب المعلِّمُ يعقوبَ: سيحلّ الروح القدس فيكم، ويمنحكم قلباً جديداً، ويجعل منكم رجالاً يسلكون في وصايا الله (مزمور 51 : 12 - 14 ، أرميا 31 : 33 - 34، حزقيال 36 : 26 - 27 ) فهل أنتم مستعدّون ليُغيرّ الرب أذهانكم القاسية ولتغلب محبّةُ الله أنانيّتَكم؟

 

أجاب بطرس ولكن إن أتاني أحد وتفوّه بكلام قبيح، سأنظر إليه بشذر وأوبِّخه وآلا أفقد الوقار ويستهزئ بي.

 

قال المعلم:"لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً" (متى 5: 39).

 

هذا مستحيل وغير عادل، أجابه بطرس بانفعال، فلماذا لا نقاوم الشر؟  قد أمرنا موسى " عين بعين وسنٌ بسن "،  وهذا  صواب   

(الخروج 21 : 24، متى 5 : 38 ).

 

صمت المعلِّم وقتاً وهم يصعدون إلى العلاء، ثم تكلّم بتمعُّن : " كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء "( متى 7 : 12 ، رومية 13 : 8 - ‍ 10غلاطية 5 : 14 ). من يحِبّ ويُسامح يكون أقوى من الذي ينتقم. ومن يغلب غضبه الخاص ينتصر. ولكن من يستقوي على الآخر يزرع بغضاً وحقداً.  لذلك ينبغي أن يتغيّر تفكيركم، وتتوبوا توبةً نصوحةً لِتفكِّروا كما يفَكِّر الله، وتُحِبُّوا كما يحب الله وترحموا الجميع مثله ( متى 5 : 48 ، لوقا 6 : 36 ) .

واستفهم يوحنا الفتى: ما هو مقدار محبّة الله للبشر؟ وكيف يهتمّ الله تعالى بنا ونحن صغار بسطاء؟ كلنا نجسون نستحق الدينونة، وأني أخاف من القدوس ومن يوم الدينونة .

 

نظر المعلِّم إلى الفتى بلطف وأجابه، سوف تدرك محبة الله أكثر من الآخرين وتختبر أنّ الله هو أبوك السماوي (1 يوحنا 4 : 7 - 21 ) انه يعرف كل واحد منكم ويحب الجميع ولا ينسى المساكين ويهتم بهم. "الله يريد أن جميع الناس يخلصون والى معرفة الحق يُقبلون"( تيموثاوس 2 :4، يوحنا 3 : 16 ) . إن الله محبة، ورحمته تدفئ قلوبكم الباردة وتملؤكم وتغيّركم وتقدّسكم إلى التمام.

 

قد أصبح الطريق أشد قساوة في صعودهم إلى فوق وانكشفت مناظر وادي البقاع الواسع مع سلسلة جبال لبنان الخلاّبة، فأدركوا قمة صنين من بعيد، وامتد نظرهم إلى وادي الأردن العميق، وكانت السماء زرقاء صافية.

 

قطّب بطرس جبينه وسأل، ما هي علاقة محبة الله بتوبة الإنسان؟ وماذا يعني الانجيل في أيّامنا؟

 

أجاب يعقوب، إن وُلِدَ لأِمير ابنٌ، ينتشر هذا الخبر المفرح كإنجيله في كل البلاد، وان غلب جيشه العدو، يفرح الشعب، فربما قد أعلن الله انه وُلِدَ لنا المخلِّص الّذي يحرِّرنا من نير الاستعمار الضاغط علينا (لوقا 2 : 8 - 14 ) .

 

قال المعلم، الإنسان هو عدو نفسه، فخطاياه النجسة تفصله عن الله. والموت ينتظر الجميع كأجرتهم عن العناد والحقد. ويتربّص الشيطان في كل مرصد ليدخلكم في التجربة. أما الله فقد أرسل المنجّي الفريد الذي سيحرركم من أفكاركم الرديئة ومن أعمالكم الأثيمة. وهو سيستأصل من قلوبكم الخوف من الموت، ويحميكم من الجن والأرواح. لقد تمركزت فيه محبة الله، لينصر ملكوت السماوات نصراً أبدياً. فافرحوا وتهللوا،لأن مخلِّصكم حي. التفتوا نحوه وثقوا به، استقبلوه وتمسَّكوا به فيحقق ملكوت نعمته في حياتكم وعائلاتكم. ( يوحنا 5 : 25، رومية 6 : 23، تيطس 2 : 11 - 14 ) .

 

تابع الرجال الأربعة، مع هذه الأبحاث، الصعود في الطلعة نحو قمة حرمون، وأشرقت الشمس بحرِّها، وهبّ النسيم البارد. وأصبحت المناظر بديعة عندما وصلوا إلى قمة الجبل، إذ رأوا جزيرة قبرص في أفق البحر المتوسِّط، وتراءى جبل الكرمل وخليج عكا من خلال الضباب، وظهر الجبلان عيبال وجرزيم (تثنية 11 : 29) وبانت وراءهما قُبَب القدس، واتضحت الأودية العميقة لنهري اليرموك ويبّوق ( تكوين 32 : 22) ثم مرتفعات عمّان واتسعت مدينة الشام في واحة بَرَدَى المحاطة بالصحراء.

 

تعب الرجال الأربعة بعد عناء التسلّق مدّة ست ساعات وخارت قِواهم، فأكلوا مما تزودوا به وارتاحوا.

 

أما معلمهم فانفصل عنهم قليلاً وصلّى إلى رب العالمين الذي بسط أمامهم هذه المناظر الشاملة للبلدان المجاورة بملايين سكّانها فرفعهم إلى القدّوس وشفع فيهم، وبينما كان المعلم يصلّي إلى الله بإلحاح، تغيّر وجهه وانعكس مجد الرب عليه وأضاء وجهه أكثر بهاءً من الشمس، وحتى ملابسه أشرقت من مجده ( لوقا 9 : 29 ).

 

عندئذٍ ظهر أمامه شخصان محاطان بالنور: موسى وسيط الشريعة، وإيليا ممثِـل الأنبياء، وتكلما معه عن مستقبله (لوقا 9 :31) وأكدا له أنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم، وأنّه سيصالح البشرية بالله مطفئاً غضبه القدّوس. وسيسطو عليه بُغض الناس وحقد الشياطين ليقتلوه، أما هو فسيقوم من بين الأموات بعد موته الكفّاري منتصراً ومحققاً ملكوت السماوات في أتباعه. فانهياره المبين سيصبح ظَفَرُهُ العظيم. وسيتم موته القريب في انسجام مع شريعة الله ووحي أنبيائه.

  

كان بطرس ويعقوب ويوحنا نائمين. وعندما فتحوا أعينهم رأوا بدهشة وخوف ظهور الأشخاص السماوية في النور الساطع أمامهم، ففركوا أعينهم، وظنّوا أنهم يحملون. إنما مجد معلِّمهم أضاء أمامهم ببهاء فأدركوا أنه الغالب الموعود المنتصر على غضب الله والخطيّة والموت.

 

لم يعرف بطرس ماذا يقول فتمتم انّه منظر عظيم "وان أردت يا رب فنبني مظلّة لك، ولموسى واحدة، ولايليا واحدة" (متى 17 : 4 ، لوقا 9 : 33 )  فتمنّى بطرس أن يمسك مجد رسل الله ويبقيهم. ونسى بطرس نفسه ولم يُفَكِّر أن يبني مِظلَّة لذاته ولِزملائه. لقد أراد أن يتمسَّك بنور السماء ومجدها لأنه أدرك أن السماء قد انفتحت على جبل حرمون حقاً.

عندما نطق بطرس بمنية قلبه أحاطت سحابة النور بالرسل الثلاث مع صيادي السمك الثلاث، وملأ مجد الرب السحابة ببهائه ولمعانه.

فجأة سمعوا صوتاً عظيماً "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا" (لوقا 9 : 34 ). فارتعب الصيادون الثلاثة لأن الصوت القوي أتى مباشرةً من السحابة فأدركوا أن مجد الرب أحاط بهم. لم يتكلّم أحد منهم بكلمة واحدة. القدير قد تكلّم. لا يستطيع أحد أن يمنع وحي الله أو يبطله. قد أعلَنَ على قمة جبل حرمون أحد إعلاناته الفاصلة في تاريخ البشر.

 

أخترق بهاء السحابة وكلمة الوحي الرجال الثلاثة فخافوا خوفاً عظيماً وسقطوا أرضاً على وجوههم، إذ لا يستطيع أحد ان يحتمل رؤية الله القدّوس.

 

تقدم ربهم إليهم، فلمسهم وأقامهم للحياة (متى17: 7) عندها اضمحلت سحابة النور مع المشاهدين من السماء فلم يروا أحداً سوى يسوع  بن مريم وحده (مرقس 9 :8 ).

 

الآن عرفوا من هو، ولكن لم يتكلّم أحد منهم بكلمة واحدة. كان الاختبار السماوي أعظم من أن يمزّقه كلام بشري.

 

ابتدءوا بالنزول من الجبل صامتين، وكانت أفكارهم متجهة نحو ذاتهم ونظروا بخجل إلى ربهم متوقعين منه الكلمة الأولى.

 

بعد قليل واجههم يسوع وأمرهم أن لا يخبروا أحداً عن تجلّي ذاته ولا عن ظهور موسى وإيليا، وألحَّ عليهم أن يخفوا وحي الله هذا إلى أن يتم موته الكفّاري، ويقوم من قبره منتصراً (مرقس 9 : 9 ).

عندئذ تنفتح السماوات للجميع ويحل روح محبّة الله في المصَلّين التائبين.

 

لم تستوعب عقول التلاميذ ملء المعلومات الجديدة ولم يدركوا سمو المنطق الروحي.

 

 فبعد النزول بصمت، سأل يعقوب : قد أخبر علماء التوراة أنّه سيظهر إيليا أولاً قبل مجىء المسيح (مرقس 9 : 11 ) .

 

فأجاب ابن مريم : إن إيليا الموعود قد حلّ. إنما الأكثرية لم تسمع له ولم يندموا على أعمالهم الشرّيرة. كانت قلوبهم متحجّرة وأذهانهم متكبِّرة. قليلون اعترفوا بخطاياهم. وظنّوا أنَّهم صالحون فعارضوا دعوة يوحنّا المعمدان للتوبة. لم يكن المعمدان إيليا النبي شخصيّاً بل تكلَّمَ بنفس الغيرة وبقوّة الروح القدس مثل النبي إيليا سابقا. لايوجد في الكتاب المقدس تقمّص بأرواح الموتى، بل دعوة للتوبة في كلّ جيل وحلول روح الرب في التائبين (مرقس 9 : 12 - 13، متى 11 :14).

 

أما ابن الإنسان الذي أخلى مجده الأصلي وتجسّد، فتابع قوله، أنّه ينبغي عليه أن يتألّم مثل يوحنّا المعمدان، وأن يموت موتاً حقيقياً ليدخل إلى مجده الأصيل (لوقا 24 : 26 و 46 ، أشعياء 53 : 3 - 5 ) .

 

هذه الإعلانات كانت فوق إدراك صيادي السمك الثلاثة لأنّهم، قبل فترة وجيزة شاهدوا مجد ابن الله بأعينهم، فصمتوا وآمنوا بما سمعوا. لقد تيقَّنوا أنّ اختبارهم على قمّة حرمون ليس حلماً بل حقيقةً، فنظروا بِخجل واحترام إلى معلِّمهم الّذي تصرّف كإنسان طبيعي، إنما الله سمّاه ابنه الحبيب.

 

تأخّر متسلِّقو الجبل الأربعة عندما رجعوا إلى ينابيع الأردن والتقوا أتباع المسيح الآخرين، فأحاط بهم جمع، فركض والد  فتى مريض نحو يسوع صارخاً : يا رب، ارحم ابني الوحيد، إنه مسكون بروحٍ نجس أصمّ وأبكم، يرميه إلى الأرض مراراً فيصرعه. وظهر أن تلاميذك لم يتمكّنوا من إخراج هذا الروح. أنت رجائي الوحيد (متى 17 : 14 - 16 ، مرقس 9 : 14 - 18 ، لوقا 9 : 36 - 40).

 

استاء المسيح بسبب سيطرة الشيطان على خلق أبيه السماوي، واستاء من قلَّ إيمان تلاميذه فوبَّخهم:"أيُّها الجيل غير المؤمن الملتوي، إلى متى أكون معكم، إلى متى أحتملكم، قدِّموه اليّ هاهنا" (متى 17 : 17، مرقس 9 : 19 ، لوقا 9 : 41 ).

 

فلمّا شعر الروح النجس بقرب ابن الله صرّعه، فوقع الفتى أرضاً يتمرَّغ ويرتجف بنوبات عصبيّة.

 

فالتفت يسوع إلى الأب وسأله : "منذ متى يتغذَّب الصبيّ هكذا؟ فقال الأب : منذ صباه هو مصاب، إن كنت تستطيع شيئاً فتحنَّن علينا وأعنّا" (مرقس 9 : 20 - 22).

 أجابه يسوع بجملة قصيرة، لا يستطيع أن ينطق بها إلاّ ابن الله في سلطانه "إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شيء مستطاع للمؤمن" (مرقس 9 : 20 - 22).

 

عندئذٍ جثا الرجل على ركبتيه أمام الجمهور وصرخ بدموع وقال:

" أُؤمن يا رب، فأعن عدم إيماني"، فانتهر يسوع الروح الأصم والأبكم : أنا آمرك اخرج منه ولا تدخله أيضاً"(مرقس 9 : 25 - 28 ) .

 

فصرخ الروح بصوتٍ مرعب وصرعه بشدة ومرّغه وخرج منه، فاضطجع الصبّي على الأرض كميتٍ، وتمتم الجماهير ، إنّه قد مات. أمّا يسوع فأمسك الفتى بيده وأقامه، فقام ورجع مع أبيه إلى بيته، فبُهِت الذين شاهدوا هذه المعجزة، من مجد الرب الذي عاينوه. (لوقا 9 : 42 - 43) .

 

 ماذا حدث على جبل حرمون؟

 

· قد أعلن الله مجد ابنه قبل موته الكفّاري، ليقوّيه فيتقدّم إلى آلامه وموته مطمئناً.

 

· عزّى المسيح أتباعه بأنّ موته القريب ليس نهايته بل أنّه سيلبس مجده الأصيل بعد قيامته وصعوده إلى السماء.

 

· لم يكن تجلّي المسيح رؤيا كذروة التديّن الصوفي بل تحقق أيضاً في وادي الهموم والبكاء. فمحبّة الله في المسيح شفت الفتى الملبوس بروحٍ نجس كما شفت عدم الإيمان في أبيه وقادت التلاميذ للتوبة من أجل قلّة إيمانهم.

 

أيها القارئ العزيز...

 

إن أردت أن تختبر قوّة المسيح الحي نقترح أن تتعمّق في تجلّي المسيح التاريخي فتجد ذلك مكتوباً أربع مرّات في الإنجيل المقدّس:

· عند البشير متى 16 : 27- 30 

· عند البشير مرقس 9 : 1-23 وهو كتب ما أملى عليه بطرس الرسول شاهد العيان

· عند لوقا الطبيب اليوناني في الإصحاح 9 : 22 - 48 الذي دقق هذه الأحداث كونه طبيباً.

· وأخيراً كتب الرسول بطرس عن إختباره العجيب على جبل حرمون في رسالته الثانية 1 : 16 - 18

· وإن كنت لا تملك إنجيلاً وتتمنّى أن تقرأه وتختبر قوّة المسيح الحي في قلبك، فإننا مستعدون أن نرسل لك نسخة مجّاناً. أرسل إلينا عنوانك الكامل وطلبك بخط واضح. وننتظر جوابك  ونبتهل أن يمنحك المسيح قلباً منفتحاً وعيناً مبصرة.

 

الحياة الفضلى - مزرعة يشوع - لبنان